الفصل الرابع عشر
("كم نحن غافلون عن تفاصيل حياتنا التى نعيشها وتلك التى تحيط بنا، لا نُلقى لها بالاً، لكنها فور ما تغيب عنا نكتشف قيمتها")
سانتياجو، صيف 2018
تعقدت العلاقة بين أليخاندرو وسانتانا وما عاد يدرى ماذا يفعل، أوصدت باب البيت دونه ورفضت دخوله فأقام وحيدًا في بيته الخالى بضاحية فالى لو كامبينو، الذى شهد خيانته، لم يبال في أول الأمر، بل اتخذها ذريعة لتمر عليه روزالينا وقت ما تشاء والتى أحست، إزاء تصرف سانتانا، أن أليخاندرو خلا لها، تمر عليه بعد انتهاء عملها بالسوبر ماركت فتعد طعام الغداء وتقضى معه بعض الوقت ثم تعود إلى أمها في المساء وأحيانا تتصل بها وتخبرها أنها تأخرت في العمل وستبيت مع إحدى صديقاتها في سكنها القريب من السوبر ماركت، تتصنع أمها الجهل وتطلب منها أن تطمأنها من حين لآخر فيما تبتهل إلى الله في سرها أن يحفظها ويرزقها الزوج الذى ينسيهما مأساتهما، وفى الصباح تعد الفطور فإن أفلحت في إيقاظه، وهذا نادر، أفطرا معًا، وإن فشلت تناولت فطورها وقهوتها وتركت له المائدة ليفطر متى استيقظ.
ولم يطل الأمر بأليخاندرو، إذ سرعان ما اكتشف عجزه وحيدًا، وأنه وإن غاب تأثيره على أسرته إلا أن تأثيرهم عليه لا يمكنه تجاهله، اكتشف حاجته أن يكون إلى جوارهم، لم يدرك من قبل أنه كائن اجتماعى لا يستطيع العيش بمفرده، أذهلته المساحة الجديدة في نفسه، لم يكن يعلم أنه هش إلى هذه الدرجة وأن صلابته ليست سوى قشرة رقيقة خدعته.
كان فيما سبق يتلهف للهروب من أسر سانتانا، فيفتعل الأسباب ليسافر عدة أيام مع روزالينا، لكنه كان، وبعد مضى يومين أو ثلاثة، يحن إلى أسرته، فإن كابر وأنكر غلبه قلق خفى وانتابته هواجس لا يعرف كيف يردها، فيحزم أمتعته ويعود، اعتادت منه روزالينا هذا دون أن تعرف سببًا، وألفت منه سانتانا عودته من أسفاره بعد أيام قلائل، الوحيد الذى لم ينتبه لهذا السلوك كان أليخاندرو نفسه حتى وقع ما وقع بينه وبين زوجته، فعاين ضعفه وقلة حيلته في فضاء وحدته.
رأى سانتانا بعين مختلفة وأبعاد جديدة خلاف نظرته السابقة الضيقة لها، وعندما حاول ملء فراغها بروزالينا اكتشف خطأ حساباته، قد تعزيه ليوم أو بعض يوم لكنها لا تستطيع أن تملأ فراغ أيامه، وقف مندهشًا وعاجزًا، أمام جهله بنفسه، أيقن أيضًا أن سانتانا حين رفضت دخوله البيت كانت تعلم أنه لن يتحمل البُعد، يا إلهى، أنجهل خبايا نفوسنا ويعلمها الآخرون، كم نحن غافلون عن تفاصيل حياتنا التى نعيشها وتلك التى تحيط بنا، لا نُلقى لها بالاً، لكنها فور ما تغيب عنا نكتشف قيمتها.
اتصل بى، ذات يوم، في مكتبى وأخبرنى بعذاباته النفسية وندمه على ما انحدرت إليه علاقته مع سانتانا وقناعته صعوبة استمرار حياته بعيدًا عنها وعن البنتين، ثم طلب مساعدته والتوسط لديها في تصفية الأجواء، رغم حرج الموقف ضحكت وسألته كيف لى أن اتواصل معها وهى لا تعرف الإنجليزية وأنا لا أعرف الإسبانية، فجاء صوته ضعيفا واهنا مستجديا، طلبت مهلة لأفكر في حل، فألح، هدأت روعه وطلبت منه أن يمر على لنتناول العشاء معًا، فرحب غير مكترث بالطعام ولا تفاصيله.
اتصلت بفرناندو وطلبت منه تبكير موعد مروره ساعة عن موعدى اليومى، مررت على السوبر ماركت وابتعت بعض الخضر والفاكهة، أعددت العشاء وفرشت المائدة وانتظرت وصوله، بدا محرجًا لا يعرف من أين يبدأ فسألته ونحن نتناول طعامنا،
- ما أخبار روزالينا ؟
- بخير
- هل تراها ؟
- تزورنى على فترات
- فى بيتك ؟
قال وقد خفض وجهه نحو الأرض
- نعم ..
ثم استدرك
- أنا لا أطلبها، هى التى تمر على
- .....
- أعدك أن أُنهى ما بيننا في أقرب وقت
- أليخاندرو، لا استطيع أن اتدخل بينك وبين سانتانا وأنا أعلم أن علاقتك بروزالينا ما زالت قائمة ولا استطيع أيضا أن اطلب من زوجتك أن تسامحك على أمل انهاء علاقتك بروزالينا
- ....
- لمَ لم تُنه علاقتك معها؟
- صعب
- لماذا ؟
تردد قليلاً وتململ في جلسته ثم قال، كمن يلقي بنفسه في عباب موج هادر غير مبال بما يصيبه،
- إنها حامل
عقبت واضعًا رأسى بين كفى،
- هذه كارثة
- وعدتنى التخلص منه
- وتطلب منى التستر على هذا أيضًا ؟!
- أرجوك ! ساعدنى !!
- كيف ؟
ثم أردفت متهكمًا،
- بأن اشجع روزالينا على التخلص من الحمل، وأعد سانتانا أنك عُدت زوجا صالحا، ألهذا الحد ترانى شيطانا ؟
- مؤكد لا، ولكن لا أحد غيرك يمكنه مساعدتى
- أليخاندرو !!
- نعم
- تأكد أننى في خدمتك متى سويت أمرك مع روزالينا ونسيت أمرها وأمر غيرها وعدت نادما مخلصا لزوجتك
- .....
طأطأ رأسه دون أن ينبس بكلمة، ولم أدرى هل أكمل عشاءه أم جلس متصنعًا الأكل، حتى أنا لم أعد أجد للأكل طعمًا.
مضى من عندى كسيفا حزينا لا يعرف ماذا يفعل ولا أعرف أنا ماذا أقول له، انعقد لسانى حين عرفت بحمل روزالينا، تعقدت الأمور ولم يعد الأمر يتوقف على إُنهاء علاقته، وجود طفل يربطهما يعقد الأمور، حتى لو جاء خارج علاقة شرعية لا تبدو غريبة في بلد كتشيلى؛ يسمح فيها القانون بنسب الأطفال إلى امهاتهم.
طبقًا لما رواه أليخاندرو عن شخصية سانتانا، فإن أبسط ما ستفعله –إن عرفت- أن تغلق الباب في وجهه نهائيًا وتقطع صلتها به، ولا استبعد ان تطلب منه الطلاق وتحرمه من بنتيها أيضًا؛ اللتان لم ينقطع حبلهما السُرى عنها، المؤمنتان بأنها تُغنيهما عن كل ما في الكون، لم يكن هذا شعورًا جديدًا، بل ومن وقبل أن يفارقهما أبوهما، دائمًا كانت أمهما الملجأ والملاذ في كل صغيرة وكبيرة، حتى كادتا تنسيان دور أبيهما في حياتهما.
ذات صباح، استدعت مديرة المدرسة البنت الكبرى إلى مكتبها على خلفية تدني درجاتها، وعندما طلبت محادثة أبيها لمراجعته، طلبت منها أن تحدث أمها، فهى صاحبة الأمر.
من ناحيته، يأس أليخاندرو من دورها كزوجة ووجه مشاعره نحو روزالينا التى وجدت فيه عزائها عن سنوات شباب تسربت من بين يديها تسرب الماء من كف طفل، اقتربت من السادسة والثلاثين، فما إن عثرت عليه حتى وهبته كل ما يبحث عنه لدى المرأة ولم يجده قبلها فاستقر واستكان بين ذراعيها وآمن أنها الأنسب، فهى لا تبحث عن زواج ولا عن أطفال، كانت تبحث عما يؤكد لها أنها ما زالت تعيش بعد مأساتها وفاجعتها هى وأمها.
مع كل يوم يمر عليه معها، يصبح انسلاخ أليخاندرو من إمرأة مثلها أمرًا صعبًا على رجل وجد فيها عالمًا أنثويًا مختلفًا يكتسب إثارته من كونه ممنوعًا، فصار كلما تذكر خصوصياتهما معا عاوده الشوق والحنين إلى مغامراتهما الخفية. كعادتها، تثير فينا الحدود رغبة تخطيها، وتشعل فينا الممنوعات شبق المغامرة وحمى تجاوزها، لم يتحمل آدم عذابات عدم الاقتراب من الشجرة المحرمة الجاثمة أمام عينيه، نسى حياة الرغد، نسى الجنة واندفع محمومًا تحت وطأة شبق التجربة لاستكشاف الممنوع ووعد الخلود، قد لا تكون المحظورات ذات قيمة حقيقية، لكن غموضها وهوس الرغبة بكشف ما هو خفى يدفعنا نحوها، (وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبرا).
أُصيبت حياته مع زوجته بفيروس الرتابة والاعتياد، ولم يحاول أى منهما إثارة فضول الآخر، لقاءات روتينية لا تقدم ولا تؤخر في مسار علاقتهما كزوجين، ومع غياب دوره الأبوى اضطرت أن تملأ ما خَلَفهُ من فراغ وأن تحل محله، فصارت منذ استيقاظها وحتى موعد نومها تدور في ساقية المشاغل وحل مشاكل الأسرة، بيت به طفلتان في طور المراهقة يتلقيان تعليمهما في مدرستين تبعدان نحو عشرة كيلومترات عن المنزل، يحتاجان من يوصلهما إلى المدرسة صباحًا ويعود بهما إلى البيت عند الظهيرة، ومن يساعدهما على استذكار الدروس خلاف طلباتهما الأخرى، واستمرأ هو حياته شبه عاطل، لا يشغل باله بأمر، عاطل عن كل شيء، حتى عن دوره كأب، وليس فقط كونه من دون عمل مكتفيا بما تدره عليه إيجارات ثلاث منازل ورثهما عن أبيه أو بالأحرى عن جده.
فر غسان زعيتر من بلدته نابلس أوائل الخمسينات هربًا من مطاردة الإسرائيليين له إثر مشاركته في أعمال فدائية ضد قوات الاحتلال الإرهابية، استشهد رفيقاه فيما استطاع هو الهرب، تخفى لعدة أيام في بساتين نابلس، ثم تسلل إلى حيفا بمساعدة بعض زملائه حيث رتبوا له مع بحارة يونانيين الهرب على ظهر سفينة تجارية توقفت في ميناء حيفا لبضعة أيام بجواز سفر مزور باسم خليل كنعان، وهو الاسم الذى سيعيش ويموت به، ويحمله أولاده من بعده.
هرب تاركًا حدائق الدراق والمشمش وأشجار الزيتون تشكو غيابه، هدم الاحتلال بيته فصار كل همه أن يرسل لأسرته المال ليبنوا غيره، أثرت فيه الحادثة؛ جعلته شغوفًا بامتلاك منازل وأراض قدر استطاعته عَلّه يعوض ما فقده، هاجر من بلد إلى آخر يدفعه الأمل في زيادة دخله والهرب من عيون الموساد المتربصين في كل مكان؛ عمل حمالاً في موقف سيارات بتركيا ونقاشًا في هولندا، وجامع عنب في حقول فرنسا، وسائق شاحنة لدى تاجر فواكه مكسيكى ولخبرته السابقة في تجفيفها عرض عليه الفكرة، في البداية تخوف التاجر من المغامرة لكنه عرف كيف يقنعه؛ أشارت عليه زوجته، التى لحقت به نهاية الخمسينات مع ابنهما البكر حنا، أن يرسل إليه صندوق فواكه مجففة من تلك التى يصنعونها بالبيت، أناناس، عنب، كيوى، أجاص، وتين شوكى، ومن هنا اكتسب غسان لقب، سوربرينديو، وتعنى الفكهانى باللغة العربية، بعد انتشار وتوسع تجارته أصبح (إيلبريمير سوربرينديو) بالإسبانية و"الفكهانى الأول" بالعربية.
مد التاجر المكسيكى يده إلى صندوق الفواكه المجففة الأنيق في شغف، صندوق من الخشب الأبيض المستخدم في تعبئة فواكه بساتينه وعليه شعار شركته، كُتب عليه سطرين مطبوعين باللون البنى المحروق، في السطر الأول، فواكه مجففة، وفى الثانى صناعة يدوية بجودة عالية، رفع المكسيكى الغطاء الخشبى وورقة الزبدة النائمة بعرض الصندوق تحتضن ما تحتها من فاكهة وتخفيه عن العيون كأنها تخشى أن يمسها أحدًا بسوء، تناول شريحة أناناس بدت نابضة بالحياة رغم تجفيفها، تلمع كأن بداخلها ضوء خافت ينير خلاياها الداخلية ويحفظ لها بريقها، ما إن قضم منها قضمة متوسطة الحجم حتى ذابت عصارتها في فمه، كأنما أناناس طازج، التبس الأمر على التاجر المخضرم فتناول قطعة أخرى فوجدها كسابقتها، جُففت الشرائح بطريقة مختلفة عما عرفته الأسواق من فواكه مجففة لا تلين إلا بنقعها في شراب السُكر أو اللبن، تناول شريحة كيوى ووجدها كسابقاتها مع اختلاف الطعم، أيقن إنها طريقة مبتكرة تحفظ للفاكهة خصائصها ونكهاتها، تحبسها في غلاف جاف يعزلها عن الهواء والعوامل الجوية، بينما القلب نصف جاف يحتفظ ببعض عصارته وأليافه في انتظار أفواه الموعودين.
تأكد التاجر المكسيكى أنه أمام فرصة عمره لحوز السبق في سوق الفواكه، ليست الطازجة فحسب، بل والمجففة أيضًا، وقبل أن يكمل تذوق باقى الأصناف، اتصل بخليل كنعان، يخبره بموافقته على المشروع، ولكى يحفزه على بذل المزيد من الجهد خصص له نسبة من العائد، وضع غسان كل وقته وجهده في المشروع، واصل الليل بالنهار، نام في الشادر وبجوار صناديق تعبئة الفاكهة، تواصل مع تجار محليين وآخرين خارج المكسيك، نجح المشروع بعد عدة كبوات صبر عليها صاحب العمل لخبرته في الأسواق ومعرفته أن كل منتج جديد يحتاج إلى مغامرة وصبر وحنكة تمكنه فيما بعد من جنى ثمار استثماراته.
تعلم غسان من كل التحديات التى واجهته، عرف أن زيادة الكميات المجففة يستدعى ترتيبات تختلف عن تلك التى يتقنها هو وزوجته للكميات الموسمية التى اعتادا تجفيفها بنفس الطريقة بالمنزل لاستخدامات الأسرة وإهداء بعض منها للجيران والمعارف، ارتفعت نسبته من العائد، فكر في مشروعه الخاص، استأجر حدائق وبساتين وراح يرعاها ليل نهار وتنوعت تجارته بين تصدير فواكه طازجة ومجففة، وذات يوم عرض عليه أحد عملائه بتشيلى مشاركته شرط نقل تجارته إلى تشيلى، كان العرض مغريا وصعب الرفض، قَبِلَ وصفى أعماله في المكسيك واتجه مع أسرته أوائل السبعينات نحو الجنوب، إلى سانتياجو، ليبدأ من جديد تراوده أحلام التوسع وتدفعه روح المغامرة، هاجر ومعه زوجته وابنه حنا، المولود في نابلس، مع أخويه المولودين في المكسيك، ولأن غسان كان مسيحيًا متدينًا فقد اختار لأولاده اسماء ذات دلالات دينية، فسماهم إيسا، وماريا، وخوسيه، أى عيسى، ومريم، ويوسف، خلاف ابنه الأكبر حنا.
فى سانتياجو، تزوج حنا من فتاة ذات أصول فنزويلية لينجبا أليخاندرو نهاية السبعينات، خلال هذه السنوات كبرت تجارة غسان وتوسعت أملاكه بين حقول فواكه وبنايات امتلكها وكأنه اصيب بحمى التملك وتعويض ما سلبه اليهود في نابلس، اشترى بعض الأراضى للاستثمار مفضلاً الاحتفاظ بثروته في شكل عقارات عن تركها أموالاً سائلة تفقد قيمتها مع الوقت، وامتلك عقارات أخرى نتيجة تسوية ديون مع تجار تعثروا في سداد ما عليهم، بوفاة الجد أواخر التسعينيات، عن عمر قارب الثمانين عاما ورث والد أليخاندرو ثروة كبيرة ساعدته في الحفاظ على مستوى حياته الكريمة، فإلى جانب عمله في ديوان الولاية كانت عائدات الأرض وإيجارات المبانى تدر عليه أموالا كبيرة، قُسمت بعد وفاته بين أبناءه الثلاثة، ومنهم أليخاندرو.
جذع المفاتيح الخشبى، أو لوحة المفاتيح كما يسميها أليخاندرو، كان الشيء الثابت في كل ما مرت به أسرة غسان زعيتر، من أول هجرته تحت اسم خليل كنعان إلى حفيده أليخاندرو نفسه، جذع شجرة زيتون فلسطينية حمله معه أثناء اختبائه من اليهود في بساتين نابلس، يبلغ قطره حوالى خمسة سنتيمترات بطول يقارب العشرين سنتيمتر، ثبت فيه مسامير خشابى ذات نهايات معقوفة اشتراها من مدينة أزمير بعد وصوله إليها هاربًا على ظهر السفينة اليونانية، علق فيها نسخة من مفاتيح بيته في نابلس، من بلد إلى آخر تنقل معه الجذع الخشبي كأنه حبلٌ سُرى يربط بينه وبين وطنه الأم، يضعه في غرفة المعيشة كى لا يغيب عن عينيه، وكأنه يخشى النسيان في طوفان المشاغل والمشاكل اليومية.
حين اقتربت وفاته، طلب منهم إحضار الجذع، ضمه إلى صدره الضامر كمن يضم حبيبة طال غيابها عنه، تشممه مستحضرًا رائحة زيتون نابلس ولوزها وخوخها ورمانها وسهرات إعداد فطائر السبانخ والكنافة النابلسية، استرجع زمن الطفولة ورقائق الخبز المغطى بالزعتر والسماق، المرشوش بخيوط زيت الزيتون المتلألأ بضوء سرى، ثم سرعان ما غلبته نهنهة وانسابت ستائر دموعه الساخنة، وبيد مرتعشة سلم اللوحة إلى ابنه، هانا، كأنه يستأمنه على فلسطين، ثم رشم الصليب وفاضت روحه إلى بارئها.
تحول الميراث إلى لوحة يتوارثها الأبناء والأحفاد، يقصون عنها لأولادهم حكايات تداخل الواقع فيها بالخيال، ولعله طغى على أغلب القصص، وبدوره سيرويها جيل بعد جيل، يزيدون عليها شيئا من عندهم بقصد أو غير قصد، فالبعض تخونه الذاكرة والبعض يضيف عليها شيئا لجذب مزيد من الانتباه، وهكذا دواليك. يروونها بالإسبانية بعد ما تآكلت اللغة العربية عبر الأجيال، وصارت (شوية شوية)، على حد تعبير أليخاندرو، لم يستطيعوا توارث شيء من اللغة على الرغم من توارث بعض الملامح.
كان هانا أقرب الأبناء شبهًا بأبيه، وكذلك كان أليخاندرو الأقرب شبهًا بجده، إلا أن غسان كان ضخمًا من غير إفراط، ممشوق القامة، ذى وجه خشن وشعر رمادى كثيف وحاجبين كثيفين، أكسبه عمله في الحقول تحت وهج الشمس بشرة نُحاسية وكفين غليظتين قويتين، بخلاف أليخاندرو الأقرب لعمه خوسيه في الجسم.
رحلة طويلة لم تستغرق في عمر الزمن أكثر من مرور طيف عابر أمام نافذة عين القدر، رحلة بدأت بهروب الجد بعد عملية فدائية ضد الاحتلال ووصلت إلى حفيد لا يدرى كيف يُسوى خلافاته مع زوجته، ولا كيف ينهى علاقته مع عشيقته؛ مسكينتان، سانتانا المتفانية لأسرتها ولو على حساب حياتها الشخصية، انسحقت بكامل خلاياها في مشاغل بنتيها، وما عادت ترى الزوج الجالس على بعد إصبعين منتظرًا قَلِقًا كفحل خيل عربي، ومسكينة روزالينا الجميلة، حياة شخصية تقترب من المأساة، في لحظة واحدة فقدت الأخ والزوج وأم محطمة فقدت نصف عقلها حين هوى ابنها أمامها صريعًا.
إيه، خلف كل وجه مأساة، وخلف وجهى أنا ألف ألف مأساة، تثرى هل تساعدني كتابة الرواية على الخلاص، يبدو ألا بديل آخر. سوف أحاول قدر طاقتي، سأعاود كتابة ما بقي من فصولها أملاً في الانتهاء منها خلال الأسابيع القليلة القادمة، رغم ما يصاحب ذلك من آلام تصنعها تجدد الذكرى، عزائي أنني كلما كتبت خف الثُقل وصرت أقرب للطُهر.
إلى لقاء في فصل جديد